فصل: تفسير الآيات رقم (29- 31)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: نظم الدرر في تناسب الآيات والسور ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 31‏]‏

‏{‏لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ ‏(‏29‏)‏ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ‏(‏30‏)‏ وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آَبَائِهِنَّ أَوْ آَبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ‏(‏31‏)‏‏}‏

ولما كان من الأماكن التي قد لا يوجد بها أحد ما يباح الدخول إليه لخلوه أو عدم اختصاص النازل به كالخانات والربط، أتبع ما تقدم التعريف بأنه لم يدخل في النهي فقال مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ليس عليكم جناح‏}‏ أي ميل بلوم أصلاً ‏{‏أن تدخلوا بيوتاً‏}‏ كالخانات والربط ‏{‏غير مسكونة‏}‏ ثم وصفها بقوله‏:‏ ‏{‏فيها متاع‏}‏ أي استمتاع بنوع انتفاع كالاستظلال ونحوه ‏{‏لكم‏}‏ ويدخل فيه المعد للضيف إذا أذن فيه صاحبه في أول الأمر ووضع الضيف متاعه فيه، لأن الاستئذان لئلا يهجم على ما يراد الاطلاع عليه ويراد طيه عن علم الغير، فإذا لم يخف ذلك فلا معنى للاستئذان‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله لا يمنعكم مما ينفعكم، ولا يضر غيركم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏يعلم‏}‏ في كل وقت ‏{‏ما تبدون‏}‏ وأكد بإعادة الموصول فقال‏:‏ ‏{‏وما تكتمون*‏}‏ تحذيراً من أن تزاحموا أحداً في مباح بما يؤذيه ويضيق عليه، معتلين بأصل الإباحة، أو يؤذن لكم في منزل فتبطنوا فيه الخيانة فإنه وإن وقع الاحتراز من الخونة بالحجاب فلا بد من الخلطة لما بني عليه الإنسان من الحاجة إلى العشرة، ولذلك اتصل به على طريق الاستئناف قوله تعالى؛ مقبلاً على أعلى خلقه فهماً وأشدهم لنفسه ضبطاً دون بقيتهم، إشارة إلى صعوبة الأمر وخطر المقام، مخوفاً لهم بالإعراض عنهم، بالتردي برداء الكبر، والاحتجاب في مقام القهر‏:‏ ‏{‏قل للمؤمنين‏}‏ فعبر بالوصف إشارة إلى عدم القدرة على الاحتراز من المخالط بعد الخلطة، وأنه لا يعف فيها إلا من رسخ الإيمان في قلبه لخفاء الخيانة حينئذ بخلاف ما سبق في المنع من الدخول حيث كان التعبير ب «الذين آمنوا» ‏{‏يغضوا‏}‏ أي يخفضوا ولا يرفعوا، بل يكفوا عما نهوا عنه‏.‏

ولما كان الأمر في غاية العسر، قال‏:‏ ‏{‏من أبصارهم‏}‏ بإثبات من التبعيضية إشارة إلى العفو عن النظرة الأولى، وأن المأخوذ به إنما هو التمادي، ولما كان البصر يريد الزنى قدمه‏.‏

ولما كان حفظ الفرج لخطر المواقعة أسهل من حفظ البصر، ولأنه لا يفعل به من غير اختبار، حذف «من» لقصد العموم فقال‏:‏ ‏{‏ويحفظوا فروجهم‏}‏ أي عن كل حرام من كشف وغيره ولم يستثن الزوجة وملك اليمين استغناء عنه بما سبق في المؤمنون، ولأن المقام للتهويل في أمر للحفظ والتشديد، ورغب في ذلك بتعليله بقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ أي الأمر العالي العظيم من كل من الغض والحفظ الذي أمرتهم به ‏{‏أزكى لهم‏}‏ أي أقرب إلى أن ينموا ويكثروا ويطهروا حساً ومعنى، ويبارك لهم، أما الحسي فهو أن الزنى مجلبة للموت بالطاعون، ويورث الفقر وغيرهما من البلايا «ما من قوم ظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالسنة»

رواه أحمد عن عمرو بن العاص رضي الله عنه، ورواه عنه أبو القاسم عبد الرحمن بن عبد الحكم في كتاب الفتوح ولفظه «ما من قوم يظهر فيهم الزنى إلا أخذوا بالفنا وما من قوم يظهر فيهم الربا إلا أخذوا بالسنة، وما من قوم يظهر فيهم الرشا إلا أخذوا بالرعب الزنى يورث الفقر» رواه البيهقي عن ابن عمر رضي الله عنهما وإذا ظهر الزنى ظهر الفقر والمسكنة وراه ابن ماجة والبزار وهذا لفظه عن ابن عمر رضي الله عنهما- والبيهقي ولفظه‏:‏ «الزنى يورث الفقر» وفي رواية له «ما ظهرت الفاحشة في قوم قط يعمل بها فيهم علانية إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم» ورواه عنه ابن إسحاق في السيرة في سرية عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه إلى دومة الجندل ولفظه‏:‏ «إنه لم تظهر الفاحشة في قوم قط حتى يعلنوا بها إلا ظهر فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن في أسلافهم الذين مضوا ولم ينقضوا المكيال والميزان إلا أخذوا بالسنين وشدة المؤنة وجورالسلطان، ولم يمنعوا الزكاة من أموالهم إلا منعوا القطر من السماء، فلولا البهائم ما مطروا، وما نقضوا عهد الله وعهد رسوله إلا سلط عليهم عدو من غيرهم، فأخذ بعض ما كان في أيديهم، وما لم يحكم أئمتهم بكتاب الله وتجبروا فيما أنزل الله إلا جعل الله بأسهم بينهم» وفي الترغيب للمنذري عن ابن ماجة والبزار والبيهقي عنه رضي الله عنه نحو هذا اللفظ، وفي آخر السيرة عن أبي بكر رضي الله عنه في خطبته عندما ولي الخلافة‏:‏ لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء‏.‏ وفي الموطأ عن مالك عن يحيى بن سعيد أنه بلغه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال «ما ظهر الغلول فب قوم قط إلا ألقى في قلوبهم الرعب، ولا فشا الزنى في قوم قط إلا كثر فيهم الموت، ولا نقص قوم قط المكيال والميزان إلا قطع عنهم الرزق، ولا حكم قوم بغير الحق إلا فشا فيهم الدم، ولا ختر قوم بالعهد إلا سلط عليهم العدو» وروى الطبراني في الأوسط عن أبي ذر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا كثرت الفاحشة كثر الفساد، وجار السلطان» وفيه‏:‏ «أمثلهم في ذلك الزمان المداهن‏.‏ إذا ظهر الربا والزنى في قرية آذن الله في هلاكها» رواه الطبراني عن ابن عبايس رضي الله عنهما، وأما المعنوي فروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه قال‏:‏ «ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلا أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها»

قال ابن كثير‏:‏ وروي هذا مرفوعاً عن ابن عمر وحذيفة وعائشة رضي الله عنهم ولكن في أسانيدها ضعف‏.‏ وساق له شاهداً من الطبراني عن ابن مسعود رضي الله عنه بلفظ‏:‏ «إن النظرة سهم من سهام إبليس مسموم، من تركها مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه» فعلم من ذلك أن من تخلق بما أمره الله هنا كان قلبه موضعاً للحكمة، وفعله أهلاً للنجح، وذكره مقروناً بالقبول‏.‏

ولما كان الزكاء يتضمن التكثير والتطهير، وكان الكلام هنا في غض البصر، وكان ظاهراً جداً في الطهارة، لم يدع داع إلى التأكيد بالتصريح بالطهارة، وأما آية البقرة فلما كانت في العضل، وكان لا يكون إلا عن ضغائن وإحن فكان الولي رما ظن أن منعها عمن عضلها عنه أطهر له ولها‏.‏ أكد العبارة بفعل الزكاء بالتصريح بما أفهمه من الطهارة‏.‏

ولما كان المقام صعباً لميل النفوس إلى الدنايا واتباعها للشهوات، علل هذا الأمر مرغباً ومرهباً بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي لا يخفى عليه شيء لما له من الإحاطة الكاملة ‏{‏خبير‏}‏ ولما كان وازع الحياء مع ذلك مانعاً عظيماً فلا يخالف إلا بمعالجة وتدرب، عبر بالصنعة فقال‏:‏ ‏{‏بما يصنعون*‏}‏ أي وإن تناهوا في إخفائه، ودققوا في تدبير المكر فيه‏.‏

ولما بدأ بالقومة من الرجال، ثنى بالنساء فقال‏:‏ ‏{‏وقل للمؤمنات‏}‏ فرغب أيضاً بذكر هذا الوصف الشريف ‏{‏يغضضن‏}‏ ولما كان المراد الغض عن بعض المبصرات وهم المحارم قال‏:‏ ‏{‏من أبصارهن‏}‏ فلا يتبعنها النظر إلى منهي عنه رجل أو غيره، وأجابوا عن حديث عائشة رضي الله عنها في النظر إلى لعب الحبشة في المسجد باحتمال أنها كانت دون البلوغ لأنها قالت‏:‏ فاقدروا قدر الجارية الحديثة السن الحريصة على اللهو‏.‏ ‏{‏ويحفظن فروجهن‏}‏ عما لا يحل لهن من كشف وغيره‏.‏

ولما كان النساء حبائل الشيطان، أمرن بزيادة الستر بقوله‏:‏ ناهياً عن الزينة ليكون النهي عن مواقعها من الجسد أشد وأولى ‏{‏ولا يبدين زينتهن‏}‏ أي كالحلي والفاخر من الثياب فكيف بما وراءها ‏{‏إلا ما ظهر منها‏}‏ أي كان بحيث يظهر فيشق التحرز في إخفائه فبدا من غير قصد كالسوار والخاتم والكحل فإنها لا بد لها من مزاولة حاجتها بيدها ومن كشف وجهها في الشهادة ونحوها‏.‏

ولما كان أكثر الزينة في ألأعناق والأيدي والأرجل، وكان دوام ستر الأعناق أيسر وأمكن، خصها فقال‏:‏ ‏{‏وليضربن‏}‏ من الضرب، وهو وضع الشيء بسرعة وتحامل، يقال‏:‏ ضرب في عمله‏:‏ أخذ فيه، وضرب بيده إلى كذا‏:‏ أهوى، وعلى يده‏:‏ أمسك، وضرب الليل بأوراقه‏:‏ أقبل، والضارب‏:‏ الليل الذي ذهبت ظلمته يميناً وشمالاً وملأت الدنيا، والضارب‏:‏ الطويل من كل شيء والمتحرك‏.‏

ولما كان المقصود من هذا الضرب بعض الخمار، وهو ما لا صق الجيب منه، عداه بالباء فقال‏:‏ ‏{‏بخمرهن‏}‏ جمع خمار، وهو منديل يوضع على الرأس، وقال أبو حيان‏:‏ وهو المقنعة التي تلقي المرأة على رأسها‏.‏

‏{‏على جيوبهن‏}‏ جمع جيب، وهو خرق الثوب الذي يحيط بالعنق، فالمعنى حينئذ يهوين بها إلى ما تحت العنق ويسبلنها من جميع الجوانب ويطولنها ستراً للشعر والصدر وغيرهما مما هنالك، وكأنه اختير لفظ الضرب إشارة إلى قوة القصد للستر وإشارة إلى العفو عما قد يبدو عند تحرك الخمار عند مزاولة شيء من العقل؛ قال أبو حيان‏:‏ وكان النساء يغطين رؤوسهن بالأخمرة ويسدلنها من وراء الظهور فيبقى النحر والعنق والأذنان لا ستر عليهن‏.‏ وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله عنها قالت‏:‏ يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما نزلت ‏{‏وليضربن بخمرهن‏}‏ شققن مروطهن- وفي رواية‏:‏ أخذن أزرهن فشققنها من قبل الحواشي- فاختمرن بها، يعني تسترن ما قدام، والإزار هنا الملاء‏.‏

ولما كان ذكر الجيب ربما أوهم خصوصاً في الزينة، عم بقوله‏:‏ ‏{‏ولا يبدين‏}‏ أو كرره لبيان من يحل الإبداء له ومن لا يحل، وللتأكيد ‏{‏زينتهن‏}‏ أي الخفية في أي موضع كانت من عنق أو غيره، وهي ما عدا الوجه والكفين، وظهور القدمين، بوضع الجلباب، وهو الثوب الذي يغطي الثياب والخمار قاله ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏{‏إلا لبعولتهن‏}‏ أي أزواجهن، فإن الزينة لهم جعلت‏.‏ قال أبو حيان‏:‏ ثم ثنى بالمحارم وسوى بينهم في إبداء الزينة، ولكن تختلف مراتبهم في الحرمة بحسب ما في نفوس البشر فالأب والأخ ليس كابن الزوج- انتهى‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏أو آبائهن‏}‏ أي فإن لهم عليهن من الشفقة ما يمنع النظر بالشهوة ومثلهم في هذا المعنى سواء الأعمام والأخوال وكل منهما والد مجازاً بدليل ‏{‏وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل‏}‏ ‏{‏أو آباء بعولتهن‏}‏ فإن رحمتهم لأولادهم مانعة ‏{‏أو أبنائهن‏}‏ فإن لهن عليهن من الهيبة ما يبعد عن ذلك ‏{‏أو أبناء بعولتهن‏}‏ فإن هيبة آبائهم حائلة ‏{‏أو إخوانهن‏}‏ فإن لهم من الرغبة في صيانتهن عن العار ما يحفظ من الريبة ‏{‏أو بني‏}‏ عدل به عن جمع التكسير لئلا يتوالى أربع مضمرات من غير فاصل حصين فتنقص عذوبته ‏{‏إخوانهن أو بني أخواتهن‏}‏ فإنهم كأبنائهن ‏{‏أو نسائهن‏}‏ أي المسلمات، وأما غير المسلمات فحكمهن حكم الرجال؛ روى سعيد بن منصور في سننه عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى عبيدة رضي الله عنه ينهى عن دخول الذميات الحمام مع المسلمات، وقال‏:‏ فإنه لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها، وفي مسند عبد بن حميد نحوه عن ابن عباس رضي الله عنهما‏.‏ ‏{‏وأما ما ملكت أيمانهن‏}‏ أي من الذكور والإناث وإن كن غير مسلمات لما لهن عليهن من الهيبة، وحمل ابن المسيب الآية على الإماء فقط؛ قال أبو حيان‏:‏ قال الزمخشري‏:‏ وهذا هو الصحيح، لأن عبد المرأة بمنزلة الأجنبي منها خصيّاً كان أو فحلاً، وعن ميسون بنة بحدل الكلابية أن معاوية رضي الله عنه دخل عليها ومعه خصي فتقنعت منه فقال‏:‏ هو خصي، فقالت‏:‏ يا معاوية‏!‏ أترى المثلة به تحلل ما حرم الله- انتهى‏.‏

وقصة مابور ترد هذا، وقوله‏:‏ الكلابية، قال شيخنا في تخريج الكشاف‏:‏ صوابه‏:‏ الكلبية بإسكان اللام‏.‏ ‏{‏أو التابعين‏}‏ أي للخدمة أو غيرها ‏{‏غير أولي الإربة‏}‏ أي الحاجة إلى الاستمتاع بالنساء ‏{‏من الرجال‏}‏ كالشيوخ الفانين ومن بهم علة منعت شهوتهم، وكذا من كان ممسوحاً لقصة مابور ‏{‏أو‏}‏ من ‏{‏الطفل‏}‏ أي جنسه، والطفل الصغير ما لم يبلغ الحلم أو خمس عشرة سنة، وهو في الأصل‏:‏ الرخص الناعم من كل شيء، وكأنه سمي بذلك لأنه يخرج ملتبساً بالتراب الذي تأكله الحامل، قال في القاموس‏:‏ وطفل النبت كفرح وطفل بالضم تطفيلاً‏:‏ أصابه التراب، والطفال، كغراب وسحاب‏:‏ الطين اليابس‏.‏ قال القزاز‏:‏ ويسميه أهل نجد الكلام والعامة تقول لجنس منه‏:‏ طفل، ‏{‏الذين لم يظهروا‏}‏ أي لم يعلوا بالنظر المقصود للاطلاع ‏{‏على عورات النساء‏}‏ لعم بلوغ سن الشهوة لذلك‏.‏

ولما نهى عن الإظهار، نبه على أمر خفي منه فقال‏:‏ ‏{‏ولا يضربن بأرجلهن‏}‏ أي والخلاخيل وغيرها من الزينة فيها‏.‏ ولما كان ذلك لمطلق الإعلام، بناه للمفعول فقال‏:‏ ‏{‏ليعلم ما يخفين‏}‏ أي بالساتر الذي أمرن به ‏{‏من زينتهن‏}‏ بالصوت الناشئ من الحركة عند الضرب المذكور، وفي معنى ذلك التطيب، والنهي عن ذلك يفهم النهي عن موضعه من الجسد من باب الأولى‏.‏

ولما أنهى سبحانه ما أمره صلى الله عليه وسلم بالتقدم فيه إلى الرجال والنساء، وكان من المعلوم أن العبد الحقير المجبول على الضعف الموجب للتقصير لن يقدر على أن يقدر المولى العلي الكبير حق قدره وإن أبلغ في الاجتهاد وزاد في التشمير، أتبعه التلطف بالإقبال عليهم في الأمر بإقبالهم إليه إشارة إلى أن الأمر في غاية الصعوبة، وأن الإنسان لكونه محل الزلل والتقصير- وإن اجتهد- لا يسعه إلا إحسان الرحيم الرحمن، فقال‏:‏ ‏{‏وتوبوا إلى الله‏}‏ أي ارجعوا إلى طاعة الملك الأعلى مهما حصل منكم زيغ كما كنتم تفعلونه في الجاهلية ‏{‏جميعاً‏}‏ رجالكم ونسائكم ‏{‏أيُّه المؤمنون‏}‏ والتعبير بالوصف إشارة إلى علو مقام التوبة بأنه لا يقدر على ملازمتها إلا راسخ القدم في الإيمان، عارف بأنه وإن بالغ في الاجتهاد واقع في النقصان، وهذا الأمر للوجوب، وإذا كان للراسخين في الإيمان فمن دونه من باب الأولى ‏{‏لعلكم تفلحون*‏}‏ أي لتكونوا على رجاء من الفوز بالمطلوب الذي مضى أول سورة المؤمنون تعليقه بتلك الأوصاف التي منها رعاية الأمانة ولا سيما في الفروج؛ قال الغزالي في كتاب التوبة من الإحياء‏:‏ إن الإنسان من حيث جبل على النقص لا يخلو عما يوجب عليه التوبة، فإن خلا في بعض الأحوال عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنوب بالقلب، فإن خلا عنه فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله، فإن خلا عنه فلا يخلو عن غفلة وقصور في العلم بالله وصفاته وأفعاله، وكل ذلك نقص، وله أسباب، وترك أسبابه بالتشاغل بأضدادها رجوع عن طريق إلى ضده، والمراد بالتوبة الرجوع، ولا يتصور الخلو في حق الآدمي عن هذا النقص، وإنما يتفاوتون في المقادير‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏32- 33‏]‏

‏{‏وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ‏(‏32‏)‏ وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآَتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آَتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهُّنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏33‏)‏‏}‏

ولما تقدم سبحانه إلى عباده في الأمور العامة للأحوال والأشخاص في الزنى وأسبابه، فحكم وقرر، ووعظ وحذر، أتبعه أسباب العصمة التي هي نعم العون على التوبة فقال مرشداً‏:‏ ‏{‏وأنكحوا الأيامى‏}‏ مقلوب أيايم جمع أيم، وزن فعيل من آم، عينه ياء، وهو العزب ذكراً كان أو أنثى أو بكراً ‏{‏منكم‏}‏ أي من أحراركم، وأغنى لفظ الأيم عن ذكر الصلاح لأنه لا يقال لمن قصر عن درجة النكاح ‏{‏والصالحين‏}‏ أي للنكاح ‏{‏من عبادكم وإمائكم‏}‏ أي أرقائكم الذكور والإناث، احتياطاً لمصالحهم وصوناً لهم عن الفساد امتثالاً لما ندب إليه حديث «تناكحوا تكاثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة»‏.‏

ولما كان للزواج كلف يهاب لأجلها، لما طبع الآدمي عليه من الهلع في قلة الوثوق بالرزق، أجاب من كأنه قال‏:‏ قد يكون الإنسان غير قادر لكونه معدماً، بقوله‏:‏ ‏{‏إن يكونوا‏}‏ أي كل من ذكر من حر أو عبد، والتعبير بالمضارع يشعر بأنه قد يكون في النكاح ضيق وسعة ‏{‏فقراء‏}‏ أي من المال ‏{‏يغنهم الله‏}‏ أي الذي له الكمال كله، إذا تزوجوا ‏{‏من فضله‏}‏ لأنه قد كتب لكل نفس رزقها فلا يمنعكم فقرهم من إنكاحهم، وعن ابن أبي حاتم عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال‏:‏ أطيعوا الله فيما أمركم من النكاح ينجز لكم ما وعدكم من الغنى‏.‏ وقال البغوي‏:‏ قال عمر رضي الله عنه‏:‏ عجبت لمن يبتغي الغنى في بغير النكاح- وقرأ هذه الآية‏.‏ وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال‏:‏ التمسوا الغنى في النكاح، وتلا هذه الآية ابن جرير‏.‏ ولأحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة عن أبي هريرة رضي الله عنه رفعه‏:‏ «ثلاثة حق على الله عونهم‏:‏ الناكح يريد العفاف، والمكاتب يريد الأداء، والغازي في سبيل الله» ويؤيده ما في الصحيح من حديث الواهبة نفسها حيث زوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن لم يجد ولا خاتماً من حديد‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله ذو فضل عظيم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي ذو الجلال والإكرام ‏{‏واسع عليم*‏}‏ أي فهو بسعة قدرته يسوق ما كتبه للمرأة على يد الزوج، وبشمول علمه يسبب أسبابه‏.‏ ولما أمر سبحانه بما يعصم من الفتنة من غض البصر ثم بما يحصن من النكاح، وجراً عليه بالوعد بالإغناء، وكان هذا الوعد فيما بعد النكاح، وقدم الكلام فيه ترغيباً للإنسان في التوكل والإحصان، وكان قلبه ما قد يتعذر لأجله إما بعدم وجدان المهر وما يطلب منه تقديمه، أو بعدم رضى العبد وغيره يكون ولده رقيقاً أو غير ذلك، أتبعه قوله حاثاً على قمع النفس الأمارة عند العجز‏:‏ ‏{‏وليستعفف‏}‏ أي يبالغ في طلب العفة وإيجادها عن الحرام ‏{‏الذين لا يجدون نكاحاً‏}‏ أي قدرة عليه وباعثاً إليه ‏{‏حتى يغنيهم الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال ‏{‏من فضله‏}‏ في ذلك الذي تعذر عليهم النكاح بسببه‏.‏

ولما كان من جملة الموانع كما تقدم خوف الرق على الولد لمن له من الرقيق همة علية، ونفس أبية، أتبعه قوله‏:‏ ‏{‏والذين يبتغون‏}‏ أي يطلبون طلباً عازماً ‏{‏الكتاب‏}‏ أي المكاتبة ‏{‏مما ملكت أيمانكم‏}‏ ذكراً كان أو أنثى؛ وعبر ب «ما» إشارة إلى ما في الرقيق من النقص ‏{‏فكاتبوهم‏}‏ أي ندباً لأنه معاوضة تتضمن الإرفاق على ما يؤدونه إليكم منجماً، فإذا أدوه عتقوا ‏{‏إن علمتم فيهم خيراً‏}‏ أي تصرفاً صالحاً في دينهم ودنياهم لئلا يفسد حالهم بعد الاستقلال بأنفسهم؛ قال ابن كثير‏:‏ وروى أبو داود في كتاب المراسيل عن يحيى ابن أبي كثير قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إن علمتم فيهم حرفة ولا ترسلوهم كلاًّ على الناس» انتهى‏.‏ ولعله عبر بالعلم في موضع الظن لذلك ‏{‏وءاتوهم‏}‏ وجوباً إذا أدوا إليكم ‏{‏من مال الله‏}‏ أي الذي عم كل شيء بنعمته، لأنه الملك العظم ‏{‏الذي آتاكم‏}‏ ولو بحط شيء من مال الكتابة‏.‏

ولما أمر سبحانه بالجود في أمر الرقيق تارة بالنفس، وتارة بالمال، نهاهم عما ينافيه فقال‏:‏ ‏{‏ولا تكرهوا فتياتكم‏}‏ أي إماءكم، ولعله عبر بلفظ الفتوة هزاً لهم إلى معالي الأخلاق، وتخجيلاً من طلب الفتوة من أمة ‏{‏على البغاء‏}‏ أي الزنى لتأخذوا منهن مما يأخذنه من ذلك‏.‏

ولما كان الإكراه على الزنى لا يصح إلا عند العفة، وكان ذلك نادراً من أمة، قال‏:‏ ‏{‏إن‏}‏ بأداة الشك ‏{‏أردن تحصناً‏}‏ وفي ذلك زيادة تقبيح للإكراه على هذا الفعل حيث كانت النساء مطلقاً يتعففن عنه مع أنهن مجبولات على حبه، فكيف إذا لم يمنعهن مانع خوف أو حياء كالإماء، فكيف إذا أذن لهن فيه‏.‏ فكيف إذا ألجئن إليه، وأشار بصيغة التفعل وذكر الإرادة إلى أن ذلك لا يكون إلا عن عفة بالغة، وزاد في تصوير التقبيح بذكر علة التزام هذا العار في قوله‏:‏ ‏{‏لتبتغوا‏}‏ أي تطلبوا طلباً حثيثاً فيه رغبة قوية بإكراههن على الفعل الفاحش ‏{‏عرض الحياة الدنيا‏}‏ فإن العرض متحقق فيه الزوال، والدنيا مشتقة من الدناءة‏.‏

ولما نهى سبحانه عن الإكراه، رغب الموالي في التوبة عند المخالفة فيه فقال‏:‏ ‏{‏ومن يكرههن‏}‏ دون أن يقول‏:‏ وإن أكرهن، وعبر بالمضارع إعلاماً بأن يقبل التوبة ممن خالف بعد نزول الآية، وعبر بالاسم العلم في قوله‏:‏ ‏{‏فإن الله‏}‏ إعلاماً بأن الجلال غير مؤيس من الرحمة، ولعله عبر بلفظ «بعد» إشارة إلى العفو عن الميل إلى ذلك الفعل عند مواقعته إن رجعت إلى الكراهة بعده، فإن النفس لا تملك بغضه حينئذ، فقال‏:‏ ‏{‏من بعد إكراههن غفور‏}‏ أي لهن وللموالي، يستر ذلك الذنب إن تابوا ‏{‏رحيم*‏}‏ بالتوفيق للصنفين إلى ما يرضيه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏34- 35‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ‏(‏34‏)‏ اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏35‏)‏‏}‏

ولما أتم سبحانه هذه الآيات في براءة عائشة رضي الله عنها ومقدماتها وخواتيمها، قال عاطفاً على قوله أولها ‏{‏وأنزلنا فيها آيات بينات لعلكم تذكرون‏}‏‏:‏ ‏{‏ولقد أنزلنا‏}‏ أي بما لنا من العظمة ترغيباً لكم وترهيباً ‏{‏إليكم‏}‏ أي لتتعظوا ‏{‏آيات مبينات‏}‏ مفصل فيها الحق من الباطل، موضح بالنقل والعقل بحيث صارت لشدة بيانها تبين هي لمن تدبرها طرق الصواب كما أوضحنا ذلك لمن يتدبره في براءة عائشة رضي الله تعالى عنها وما تقدمها وتتبعها مما هو صلاحكم في الدين والدنيا ‏{‏ومثلاً‏}‏ أي وشبهاً بأحوالكم ‏{‏من الذين خلوا من قبلكم‏}‏ أي من أحوالهم بما أنزل الله إليهم في التوراة في أحوال المخالطة والزنى وقذف الأبرياء كيوسف ومريم عليهما السلام وتبرئتهم كما قدمت كثيراً منه في سورة المائدة وغيرها مما صار في حسن سبكه في هذا الكتاب، وبديع حبكه عند أولي الألباب، كالأمثال السائرة، والأفلاك الدائرة ‏{‏وموعظة للمتقين*‏}‏ بما فيه من الأحكام والفواصل المنبئة عن العلل المذكرة بما يقرب من الله زلفى، وينور القلب، ويوجب الحب والألفة، ويذهب وحر الصدر؛ ثم علل إنزاله لذلك على هذا السنن الأقوم، والنظم المحكم، بقوله‏:‏ ‏{‏الله‏}‏ أي الذي أحاطت قدرته وعلمه ‏{‏نور‏}‏ أي ذو نور ‏{‏السماوات والأرض‏}‏ لأنه مظهرهما بإيجادهما وإيجاد أهلهما وهاديهم بالتنوير بالعلم الجاعل صاحبه بهدايته إلى الصراط المستقيم كالماشي في نور الشمس، لا يضع شيئاً في غير موضعه كما أن الماشي في النور لا يضع رجلاً في غير موضعها اللائق بها، ولا شك أن النور هو ما به تظهر به الأشياء وتنكشف، فهو سبحانه مظهرهما، وهما وما فيهما دال على ظهوره، وأنه تام القدرة شامل العلم حاوٍ لصفات الكمال، منزه عن شوائب النقص، وفي آخر الشورى ما ينفع جداً هنا‏.‏

ولما كان من المحال أن يضل عن نور هو ملء الخافقين أحد من سكانهما، بين وجه خفائه مع ظهور ضيائه واتساعه وقوة شعاعه، حتى ضل عنه أكثر الناس، فقال مبيناً بإضافة النور إلى ضميره أن الإخبار عنه بالنور مجاز لا حقيقة، منبهاً على أن آياته الهادية تلوح خلال الشبهات الناشئة عن الأوهام الغالبة على الخلق التي هي كالظلمات ‏{‏مثل نوره‏}‏ أي الذي هدى به إلى سبيل الرشاد في خفائه عن بعض الناس مع شدة ظهوره، وهو آياته الدالة عليه من أقواله وأفعاله ‏{‏كمشكاة‏}‏ أي مثل كة أي خرق لكن غير نافذ في جدار؛ قال البغوي‏:‏ فإن كان لها منفذ فهي كوة‏.‏

ولما دخل المشكاة في هذا المثل خفياً فقدمها تشويقاً إلى شرحه، أتبعه قوله شارحاً له‏:‏ ‏{‏فيها مصباح‏}‏ أي سراج ضخم ثاقب‏.‏ وهو الذبالة- أي الفتيلة- الضخمة المتقدة، من الصباح الذي هو نور الفجر، والمصباح الذي هو الكوكب الكبير؛ قال البغوي‏:‏ وأصله الضوء- انتهى‏.‏

فإذا كان في المشكاة اجتمعت أشعته فكان أشد إنارة، ولو كان في فضاء لافترقت أشعته؛ وأتى ببقية الكلام استئنافاً على تقدير سؤال تعظيماً له فقال‏:‏ ‏{‏المصباح في زجاجة‏}‏ أي قنديل‏.‏

ولما كان من الزجاج ما هو في غاية الصفاء، بين أن هذه منه فقال‏:‏ ‏{‏الزجاجة كأنها‏}‏ أي في شدة الصفاء ‏{‏كوكب‏}‏ شبهه بها دون الشمس والقمر لأنهما يعتريهما الخسوف ‏{‏دريّ‏}‏ أي متلألئ بالأنوار فإنه إذا كان في زجاجة صافية انعكست الأشعة المنفصلة عنه من بعض جوانب الزجاجة إلى بعض لما فيها من الصفاء والشفيف فيزداد النور ويبلغ النهاية كما أن شعاع الشمس إذا وقع على ماء أو زجاجة صافية تضاعف النور حتى أنه يظهر فيما يقابله مثل ذلك النور؛ والدريّ- قال الزجاج‏:‏ مأخوذ من درأ إذا اندفع منقضاً فتضاعف نوره‏.‏

ولما كان من المصابيح أيضاً ما يكون نوره ضعيفاً بين أن هذا ليس كذلك فقال‏:‏ ‏{‏يوقد‏}‏ أي المصباح، بأن اشتد وقده‏.‏ ولما كان هذا الضوء يختلف باختلاف ما يتقد فيه، فإذا كان دهناً صافياً خالصاً كان شديد، وكانت الأدهان التي توقد ليس فيها ما يظهر فيه الصفاء كالزيت لأنه ربما بلغ في الصفاء والرقة مبلغ الماء مع زيادة بياض وشعاع يتردد في أجزائه، قال‏:‏ ‏{‏من شجرة‏}‏ أي زيتها ‏{‏مباركة‏}‏ أي عظيمة الثبات والخيرات يطيب منبتها ‏{‏زيتونة‏}‏‏.‏

ولما كان الزيت يختلف باختلاف شجرته في احتجابها عن الشمس وبروزها لها، لأن الشجر ربما ضعف وخبث ثمره بحائل بينه وبين الشمس، بين أن هذه الشجرة ليست كذلك فقال‏:‏ ‏{‏لا شرقية‏}‏ أي ليست منسوبة إلى الشرق وحده، لكونها بحيث لا يتمكن منها الشمس إلا عند الشروق لكنها في لحف جيل يظلها إذا تضيفت الشمس للغروب ‏{‏ولا غربية‏}‏ لأنها في سفح جبل يسترها من الشمس عند الشروق، بل هي بارزة للشمس من حين الشروق إلى وقت الغروب، ليكون ثمرها أنضج فيكون زيته أصفى، قال البغوي‏:‏ هذا قول ابن عباس رضي الله عنهما في رواية عكرمة والكلبي والأكثرين‏.‏ فهي لزكاء عنصرها، وطهارة منبتها، وبروزها للشمس والرياح، بحيث ‏{‏يكاد زيتها‏}‏ لشدة صفائه ‏{‏يضيء ولو لم تمسسه نار‏}‏‏.‏

ولما علم من هذا أن لهذا الممثل به أنواراً متظاهرة بمعاونة المشكاة والزجاجة والمصباح والزيت، فلم يبق مما يقوي نوره ويزيده إشارقاً، ويمده بإضاءة نقية، قال في الممثل له‏:‏ ‏{‏نور على نور‏}‏ أي أن العلم الرباني عظيم الاتساع كلما سرحت فيه النظر، وأطلقت عنان الفكر، أتى بالغرائب ولا يمكن أن يوقف له على حد‏.‏

ولما كان الإخبار عن مضاعفة هذا النور موجباً لاعتقاد أنه لا يخفى عن أحد، أشار إلى أنه- بشمول علمه وتمام قدرته- يعمى عنه من يريد مع شدة ضيائه، وعظيم لألائه، فقال‏:‏ ‏{‏يهدي الله‏}‏ أي بعظمته المحيطة بكل شيء ‏{‏لنوره من يشاء‏}‏ كما هدى الله من هدى من المؤمنين لتبرئة عائشة رضي الله عنها قبل إنزال براءتها‏.‏

بكون الله اختارها لنبيه صلى الله عليه وسلم، ولا يختار له إلا طيباً طاهراً وما شاكل ذلك، وعلم أن قسيم ذلك «ويضل الله عن نوره من يشاء» وعلم أن وجه كونه ضل عنه أكثر الناس إنما هو ستر القادر له بنقص في حس من يريد سبحانه إضلاله، لا لنقص في النور كما قال الشاعر‏:‏

والنجم تستصغر الأبصار صورته *** فالذنب للطرف لا للنجم في الصغر

كما سيأتي إيضاح ذلك عند قوله تعالى ‏{‏ألم تر إلى ربك كيف مد الظل‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 25‏]‏، ومر آنفاً في حديث علي رضي الله عنه في الأرواح ما ينفع ههنا‏.‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ ضرب الله هذا المثل لكم لتدبروه فتنفعوا به، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ويضرب الله‏}‏ أي بما له من الإحاطة بكمال القدرة وشمول العلم ‏{‏الأمثال للناس‏}‏ لعلمه بها، تقريباً للأفهام، لعلهم يهتدون ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏بكل شيء‏}‏ أي منها ومن غيرها ‏{‏عليم*‏}‏ يبين كل شيء بما يسهل سبيله فثقوا بما يقول، وإن لم تفهموه أنفسكم وأمعنوا النظر فيه يفتح لكم سبحانه ما انغلق منه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 39‏]‏

‏{‏فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ ‏(‏36‏)‏ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ‏(‏37‏)‏ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ‏(‏38‏)‏ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ ‏(‏39‏)‏‏}‏

ولما كان كأنه قيل‏:‏ فأي شيء يكون هذه المشكاة‏؟‏ قال شافياً على هذا السؤال‏:‏ ‏{‏في بيوت‏}‏ أي في جدران بيوت، فجمع دلالة على أن المراد بالمشكاة الجنس لا الواحد، وفي وحدتها ووحدة آلات النور إشارة إلى عزته جداً ‏{‏أذن الله‏}‏ أي مكن بجلاله فأباح وندب وأوجب ‏{‏أن ترفع‏}‏ حساً في البناء، ومعنى بإخلاصها للعمل الصالح، من كل رافع أذن له سبحانه في ذلك، فعلى المرء إذا دخلها أن يتحصن من العدو بما رواه أبو دواد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد قال‏:‏ «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم» قال عقبة بن مسلم‏:‏ فإذا قال ذلك قال الشيطان‏:‏ حفظ مني سائر يوم‏.‏ ‏{‏ويذكر‏}‏ من كل ذاكر أذن له سبحانه ‏{‏فيها اسمه‏}‏ أي ذكراً صافياً عن شوب، وخالصاً عن غش ‏{‏يسبح‏}‏ أي يصلي وينزه ‏{‏له‏}‏ أي خاصة ‏{‏فيها بالغدو‏}‏ أي الإبكار، بصلاة الصبح ‏{‏والآصال*‏}‏ أي العشيات، ببقية الصلوات، فيفتحون أعمالهم ويختمونها بذكره ليحفظوا فيما بين ذلك ويبارك لهم فيما يتقلبون فيه، وجمع الأصيل لتحقق أن المراد الظهر والعصر والمغرب والعشاء؛ قال البغوي‏:‏ لأن اسم الأصيل يجمعها‏.‏ ‏{‏رجال‏}‏ أيّ رجال ‏{‏لا تلهيهم تجارة‏}‏ أي ببيع أو شرى أو غيرهما، يظهر لهم فيها ربح‏.‏

ولما كان الإنسان قد يضطر إلى الخروج بالبيع عن بعض ما يملك للاقتيات بثمنه أو التبلغ به إلى بعض المهمات التي لا وصول له إليها إلا به، أو بتحصيل ما لا يملك كذلك مع أن البيع في التجارة أيضاً هو الطلبة الكلية لأنه موضع تحقق الربح الذي لا صبر عنه، قال‏:‏ ‏{‏ولا بيع‏}‏ أي وإن لم يكن على وجه التجارة، والبيع يطلق بالاشتراك على التحصيل الذي هو الشرى وعلى الإزالة ‏{‏عن ذكر الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام مطلقاً بصلاة وغيرها، فهم كل وقت في شهود ومراقبة لمن تعرف إليهم بصفات الكمال ‏{‏و‏}‏ لا يلهيهم ذلك عن ‏{‏إقام الصلاة‏}‏ التي هي طهرة الأرواح، أعادها بعد ذكرها بالتسبيح تصريحاً بها تأكيداً لها وحثاً على حفظ وقتها لأنه من جملة مقوماتها وكذا جميع حدودها ولو بأوجز ما يكون من أدنى الكمال- بما أشار إليه حرف التاء إشعاراً بأن هذا المدح لا يتوقف على أنهى الكمال ‏{‏و‏}‏ لا عن ‏{‏إيتاء الزكاة‏}‏ التي هي زكاء الأشباح ونماؤها، وخص الرجال مع أن حضور النساء المساجد سنة شهيرة، إشارة إلى أن صلاتهن في بيوتهن أفضل لما روى أبو داود في سننه وابن خزيمة في صحيحه عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏

«صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها» والمخدع‏:‏ الخزانة‏.‏ وللإمام أحمد والطبراني وابن خزيمة والحاكم عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «خير مساجد النساء قعر بيوتهن» ولأحمد وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما عن أم حميدة امرأة أبي حميد الساعدي رضي الله عنهما أنها قالت‏:‏ يا رسول الله‏!‏ إني أحب الصلاة معك، قال‏:‏ «قد علمت أنك تحبين الصلاة معي، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي»، قال‏:‏ فأمرت فبني لها مسجد في أقصى بيت من بيتها وأظلمه، فكانت تصلي فيه حتى لقيت الله عز وجل‏.‏

ولما وصف الرجال المذكورين ما وصفهم به، ذكر علة فعلهم لذلك زيادة في مدحهم فقال‏:‏ ‏{‏يخافون يوماً‏}‏ وهو يوم القيامة، هو بحيث ‏{‏تتقلب فيه‏}‏ أي لشدة هوله، تقلباً ظاهراً- بما اشار إليه إثبات التاءين ‏{‏القلوب والأبصار*‏}‏ أي بين طمع في النجاة، وحذر من الهلاك، ويمكن أن يقال‏:‏ المشاكي- والله أعلم- هي المساجد، والزجاج هي الرجال، والمصابيح هي القلوب، وتلألؤها ما تشتمل عليه من المعاني الحاملة على الذكر، والشجرة الموصوفة هي مثال الأبدان، التي صفاها الله من الأدران، وطبعها على الاستقامة، والزيت مثال لما وضع سبحانه فيها من جميل الأسرار، وقد ورد في بعض الأخبار أن المساجد لأهل السماوات كالنجوم لأهل الأرض، وفي معجم الطبراني في الأوسط عن ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ «كمشكاة» قال‏:‏ جوف محمد صلى الله عليه وسلم، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي في قلبه، والشجرة إبراهيم عليه السلام، ‏{‏لا شرقية ولا غربية‏}‏‏:‏ لا يهودي ولا نصراني‏.‏

ولما بين تعالى أفعال هؤلاء الرجال التي أقبلوا بها عليه، وأعرضوا عما عداه، بين غايتهم فيها فقال‏:‏ ‏{‏ليجزيهم‏}‏ أي يفعلون ذلك ليجزيهم ‏{‏الله‏}‏ أي في دار كرامته بعد البعث بعظمته وجلاله، وكرمه‏.‏ وجماله ‏{‏أحسن ما عملوا‏}‏ أي جزاءه‏.‏ ويغفر لهم سيئه ‏{‏ويزيدهم من فضله‏}‏ على العدل من الجزاء ما لم يستحقوه- كما هي عادة أهل الكرم‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فإن الله لجلاله، وعظمته وكماله، لا يرضى أن يقتصر في جزاء المحسن على ما يستحقه فقط، عطف عليه بياناً لأن قدرته وعظمته لا حد لها قولَه‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي لا كفوء له فلا اعتراض عليه ‏{‏يرزق من يشاء‏}‏‏.‏ ولما كان المعنى‏:‏ رزقاً يفوق الحد، ويفوت العد، عبر عنه بقوله‏:‏ ‏{‏بغير حساب*‏}‏ فهو كناية عن السعة، ويجوز أن يكون مع السعة التوفيق، فيكون بشارة بنفي الحساب في الآخرة أيضاً أصلاً ورأساً، لأن ذلك المرزوق لم يعمل ما فيه درك عليه فلا يحاسب، أو يحاسب ولا يعاقب؛ فيكون المراد بنفي الحساب نفي عسره وعقابه، ويجوز أن يزاد الرزق كفافاً، وقد ورد أنه لا حساب فيه؛ روى ابن كثير من عند ابن أبي حاتم بسنده عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

«إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة جاء منادٍ فنادى بصوت يسمع الخلائق‏:‏ سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم، ليقم الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، فيقومون وهم قليل، ثم يحاسب سائر الخلائق»‏.‏

ولما أخبر تعالى أن الذين اتبعوا نور الحق سبحانه، وصلوا- من جزائه بسبب ما هداهم إليه النور من الأعمال الصالحة- إلى حقائق هي في نفس الأمر الحقائق، أخبر عن أضدادهم الذين اتبعوا الباطل فحالت جباله الوعرة الشامخة بين أبصار بصائرهم وبين تلك الأنوار بضد حالهم فقال‏:‏ ‏{‏والذين كفروا‏}‏ أي ستروا بما لزموه من الضلال ما انتشر من نور الله ‏{‏أعمالهم‏}‏ كائنة في يوم الجزاء ‏{‏كسراب‏}‏ وهو ما تراه نصف النهار في البراري لاصقاً بالأرض يلمع كأنه ماء، وكلما قربت منه بعد حتى تصل إلى جبل ونحوه فيخفى؛ قال الرازي في اللوامع‏:‏ والسراب شعاع ينكشف فينسرب ويجري كالماء تخيلاً؛ وقال ابن كثير‏:‏ يرى عن بعد كأنه بحر طام، وإنما يكون ذلك بعد نصفف النهار، وأما الآل فإنما يكون أول النهار، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض- انتهى‏.‏ وقال البغوي‏:‏ والآل ما ارتفع عن الأرض، وهو شعاع يرى بين السماء والأرض بالغدوات شبه الملاءة، يرفع فيه الشخوص، يرى فيه الصغير كبيراً، والقصير طويلاً، والرقراق يكون بالعشايا، وهو ما ترقرق من السراب، أي جاء وذهب‏.‏ ‏{‏بقيعة‏}‏ جمع قاع، وهو أرض سهلة مطمئنة فد انفرجت عنها الجبال والآكام- قاله في القاموس‏.‏ وقال أبو عبد الله القزاز في ديوانه‏:‏ القيعة والقاع واحد، وهما الأرض المستوية الملساء يحفن فيها التراب، الفراء‏:‏ القيعة جمع قاع كجار وجيرة‏.‏ وقال الصغاني في مجمع البحرين‏:‏ والقاع‏:‏ المستوي من الأرض، والجمع أقواع وأقوع وقيعان، صارت الواو ياء لكسرة ما قبلها، والقيعة مثل قاع، وهو أيضاً من الواو، وبعضهم يقول‏:‏ هو جمع؛ وقال ابن جرير‏:‏ والقاع ما انبسط من الأرض واتسع، وفيه يكون السراب‏.‏ وقال عبد الغافر الفارسي في مجمع الغرائب‏:‏ قال الفراء‏:‏ القاع‏:‏ مستنقع الماء، والقاع‏:‏ المكان المستوي الواسع في وطأة من الأرض يعلوه المطر فيمسكه ويستوي نباته، وجمعه قيعة وقيعان‏.‏

‏{‏يحسبه الظمآن‏}‏ أي العطشان الشديد العطش من ضعف العقل ‏{‏ماء‏}‏ فيقصده ولا يزال سائراً ‏{‏حتى إذا جاءه‏}‏ أي جاء الموضع الذي توهمه به ‏{‏لم يجده شيئاً‏}‏ من الأشياء، فلم يفده قصده غير زيادة العطش بزيادة التعب، وبعده عن مواطن الرجاء، فيشتد بأسه، وتنقطع حليه فيهلك، وهكذا الكافر يظن أعماله تجديه شيئاً فإذا هي قد أهلكته‏.‏

ولما كان الله محيطاً بعلمه وقدرته بكل مكان قال‏:‏ ‏{‏ووجد الله‏}‏ أي قدرة المحيط بكل شيء ‏{‏عنده‏}‏ أي عند ذلك الموضع الذي قصده لما تخيل فيه الخير فخاب ظنه ‏{‏فوفاه حسابه‏}‏ أي جزاء عمله على ما تقتضيه أعماله على حكم العدل، فلم يكفِ هذا الجاهل خيبة وكمداً أنه لم يجد ما قصده شيئاً كغيره من السراب حتى وجد عنده الزبانية تعتله إلى نار، لا يفك أسيرها، ولا يخمد سعيرها‏.‏

ولما كان سبحانه لا يحتاج إلى كاتب، ولا يدخل عليه لبس، ولا يصعب عليه ضبط شيء وإن كثر، ولا يقد أحد أن يتأخر عما يريده به بنوع حيلة، عبر عن ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له القدرة الكاملة والعلم الشامل ‏{‏سريع الحساب*‏}‏ أي لأنه لا يحتاج إلى حفظ بقلب، ولا عقد بأصابع، ولا شيء غير ذلك، ولكنه عالم بذلك كله قبل أن يعمله العبد وبعد عمله له، لا يعزب عنه منه ولا من غيره شيء‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏40- 44‏]‏

‏{‏أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ ‏(‏40‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ‏(‏41‏)‏ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ‏(‏42‏)‏ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ ‏(‏43‏)‏ يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ ‏(‏44‏)‏‏}‏

ولما بين سبحانه بهذا المثال أنهم لم يصلوا إلى شيء غير التعب، المثمر للعطب، وكان هذا لا يفعله بنفسه عاقل، ضرب مثالاً آخر بين الحامل لهم على الوقوع في ممثول الأول، وهو السير بغير دليل، الموقع في خبط العشواء كالماشي في الظلام، فقال عاطفاً على ‏{‏كسراب‏}‏ قوله‏:‏ ‏{‏أو‏}‏ للتخيير، أي أعمالهم لكونها لا منفعة لها كسراب، ولكونها خالية عن نور الحق ‏{‏كظلمات‏}‏ أو للتنويع، فإنها إن كانت حسنة الظاهر فكالسراب، أو قبيحة فكالظلمات، أو للتقسيم باعتبار وقتين كالظلمات في الدنيا والسراب في الآخرة ‏{‏في بحر‏}‏ هو مثال قلب الكافر ‏{‏لجي‏}‏ أي ذي لج هو اللج، إشارة إلى أنه عميق لا يدرك له قرار، لأن اللج معظم الماء، ويكون جمع لجة أيضاً، والأوفق هنا أن يكون منسوباً إلى الجمع، لأنه أهول، والمقام للتهويل، قال القزاز في ديوانه‏:‏ ولجة البحر معروفة وهو المرضع الذي لا ترى منه أرضاً ولا جبلاً، وبحر لجي‏:‏ واسع اللجة، وجمع اللجة لجج ولج‏.‏ ‏{‏يغشاه‏}‏ أي يغطي هذا البحر ويعلوه، أو يلحق الكائن فيه ‏{‏موج‏}‏ وهو مثل ما يغشى قلبه من الجهل والشك والحيرة، كائن ‏{‏من فوقه‏}‏ أي هذا الموج ‏{‏موج‏}‏ آخر ‏{‏من فوقه‏}‏ أي هذا الموج الثاني المركوم على الأول ‏{‏سحاب‏}‏ قد غطى النجوم، وهو مثال الرين والختم والطبع على القلب، فلا سماء تبصر ولا أرض‏.‏

ولما كان هذا أمراً مهولاً، أشار إلى هوله وتصويره بقوله‏:‏ ‏{‏ظلمات‏}‏ أي من البحر والموجين والسحاب ‏{‏بعضها‏}‏‏.‏ ولما كان المراد استغراق الجهة، لم يثبت الجار فقال‏:‏ ‏{‏فوق بعض‏}‏ متراكمة، فلذلك يبعد كل البعد أن ينفذ فيها بصر، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏إذا أخرج‏}‏ أي الكائن في هذا البحر بدلالة المعنى وإن لم يجر له ذكر ‏{‏يده‏}‏ وهي أقرب شيء إليه ‏{‏لم يكد‏}‏ أي الكائن فيه ‏{‏يراها‏}‏ أي يقرب من ذلك فضلاً عن أن يكون، لأن الله قد ستر عنه كل نور بهذه الظلمات المتكاثفة، وهو مثال لعمله وأنه عدم لما تقدم من أن العدم كله ظلمة، فلا عمل له يكون شيئاً ولا يقرب من ذلك لأنه لا أهلية له بوجه ‏{‏ومن لم يجعل الله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏له نوراً‏}‏ من الأنوار، وهو قوة الإيجاد والإظهار ‏{‏فما له من نور*‏}‏ أصلاً، لأنه سبحانه يستر نوره وإن كان ملء السماوات والأرض عمن يشاء بحجب الأهوية، لأنه قادر على ما يريد‏.‏

ولما كان قيام الأمور، وظهورها كل ظهور، إنما هو بالنور، حساً بالإيجاد، ومعنى بجعل الموجودات آيات مرئيات تدل على موجدها، قال تعالى دالاً على ما أخبر به من أنه وحده نور السماوات والأرض، أي موجدهما بعلمه وقدرته ومن أن من كساه من نوره فإن في يوم البعث الذي يجازي فيه الخلق على ما يقتضيه العلم الذي هو النور في الحقيقة من مقادير أعمالهم، ومن أعراه من النور هلك‏:‏ ‏{‏ألم تر‏}‏ أي تعلم يا رأس الفائزين برتبة الإحسان علماً هو في ثباته كما بالمشهادة ‏{‏أن الله‏}‏ الحائز لصفات الكمال ‏{‏يسبح له‏}‏ أي ينزه عن كل شائبة نقص لأجله خاصة بما له فيه من القدرة الكاملة ‏{‏من في السماوات‏}‏‏.‏

ولما كان مبنى السورة على شمول العلم والقدرة لم يؤكد فقال‏:‏ ‏{‏والأرض‏}‏ أي هما وكل ما فيهما بلسان حاله، أو آلة مقاله، وعرف أن المراد العموم بعطفه بعض ما لا يعقل، وعبر ب «من» لأن المخبر به من وظائف العقلاء‏.‏

ولما كان أمر الطير أدل لأنه أعجب، قال مخصصاً‏:‏ ‏{‏والطير صافات‏}‏ أي باسطات أجنحتها في جو السماء، لا شبهة في أنه لا يمسكهن إلا الله، وإمساكه لها في الجو مع أنها أجرام ثقيلة، وتقديره لها فيه على القبض والبسط حجة قاطعة على كمال قدرته‏.‏

ولما كان العلم يوصف به ما هو سبب كالكتاب المصنف ونحوه، ويشتق للشيء اسم فاعل مما لابسه كما يقال‏:‏ ليله قائم، ونهاره صائم، ‏{‏ولا تزال تطلع على خائنة منهم‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 13‏]‏ وكانت أسطر القدرة مجودة على كل كائن، شديدة الوضوح في صفحات كل شيء، فكانت الكائنات بذلك دالة على خالقها وما له من كل صفة كمال، صح إطلاق العلم عليها وإسناده إليها فقال‏:‏ ‏{‏كل‏}‏ أي من المخلوقات ‏{‏قد علم‏}‏ أي بما كان سبباً له من العلم بما فيه من الآيات الدالة المعلمة بما لموجده من صفات الكمال ‏{‏صلاته‏}‏ أي الوجه الذي به وصلته بمولاه ونسبته إليه ‏{‏وتسبيحه‏}‏ أي الحال الذي به براءة صانعه من الشين وتعاليه عن النقص، وقد صرحت بذلك ألسن أحوالها، نيابة عن بيان مقالها، هذا بقيامه صامتاً جامداً، وهذا بنموه مهتزاً رابياً، إلجاء وقهراً، وهذا بحركته بالإرادة، وقصد وجوه منافعه، وبعده عن أحوال مضاره بمجرد فطرته وما أودع في طبيعته، وهذا بنطقه وعقله، ونباهته وفضله، مع أن نسبة كل منهم إلى الأرض والسماء واحدة، ويدل على ذلك دلالة واضحة ما روى الإمام أحمد في المسند عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن «النبي صلى الله عليه وسلم أن نوحاً عليه السلام أوصى ابنه عند موته بلا إله إلا الله، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو كن حلقة مبهمة قصمتهن، وسبحان الله وبحمده، فإنها صلاة كل شيء وبها يرزق الخلق وقال الغزالي في الإحياء‏:‏ وروي» أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ تولت عني الدنيا وقلت ذات يدي، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «فأين أنت من صلاة الملائكة وتسبيح الخلائق وبها يرزقون»، قال فقلت‏:‏ وما هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ «سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم أستغفر الله مائة مرة ما بين طلوع الفجر إلى أن تصلي الصبح، تأتيك الدنيا راغمة صاغرة، ويخلق الله من كل كلمة ملكاً يسبح الله إلى يوم القيامة لك ثوابه»

قال الحافظ زين الدين العراقي‏:‏ رواه المستغفري في الدعوات عن ابن عمر رضي الله عنهما وقال‏:‏ غريب من حديث مالك، ولا أعرف له أصلاً من حديث مالك «‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فالله قدير على جميع تلك الشؤون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط علماً وقدرة ‏{‏عليم بما يفعلون*‏}‏ بما ثبت مما أخبركم به في هذه السورة دقائق أقوالكم وأحوالكم، وضمائركم وأفعالكم، وقد تقدم في الأعراف عند ‏{‏أو لم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 185‏]‏ ما ينفع هنا‏.‏

ولما أخبر عما في الكونين بما يستلزم الملك على أنهى وجوه التمام المستلزم للقدرة على البعث، أخبر عنهما بالتصريح به فقال‏:‏ ‏{‏ولله‏}‏ أي الذي لا ملك سواه ‏{‏ملك السماوات والأرض‏}‏ مع كونه مالكاً مسخراً مصرفاً لجميع ذلك، فهو جامع للملك والملك‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ ومن الله المبدأ للكل بالإيجاد من العدم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وإلى الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏المصير*‏}‏ أي لهم كلهم بعد الفناء، وإنما طوي هذا المقدر لأنه لا خلف فيه‏.‏

ولما أخبر بذلك فتقرر ملكه وقدرته على البعث على حسب ما وعد به بعد أن تحرر ملكه، دل عليه بتصرفه في العالم العلوي والسفلي بما يدل على القدرة على الإعادة فقال‏:‏ ‏{‏ألم تر أن الله‏}‏ أي ذا الجلال والجمال ‏{‏يزجي‏}‏ أي يسوق بالرياح، وسيأتي الكلام عليها في النمل؛ وقال أبو حيان‏:‏ إن الإزجاء يستعمل في سوق الثقل برفق‏.‏ ‏{‏سحاباً‏}‏ أي بعد أن أنشأه من العدم تارة من السفل، وتارة من العلو، ضعيفاً رقيقاً متفرقاً، قال أبو حيان‏:‏ وهو اسم جنس واحده سحابة، والمعنى‏:‏ يسوق سحابة إلى سحابة‏.‏ وهو معنى ‏{‏ثم يؤلف بينه‏}‏ أي بين أجزائه بعد أن كانت قطعاً في جهات مختلفة ‏{‏ثم يجعله ركاماً‏}‏ في غاية العظمة متراكباً بعضه على بعض بعد أن كان في غاية الرقة ‏{‏فترى‏}‏ أي في تلك الحالة المستمرة ‏{‏الودق‏}‏ أي المطر، قال القزاز‏:‏ وقيل‏:‏ هو احتفال المطر‏.‏ ‏{‏يخرج من خلاله‏}‏ أي فتوقه التي حدثت بالتراكم وانعصار بعضه من بعض ‏{‏وينزل من السماء‏}‏ أي من جهتها مبتدئاً من ‏{‏من جبال فيها‏}‏ أي في السماء، وهي السحاب الذي صار بعد تراكمه كالجبال؛ وبعض فقال‏:‏ ‏{‏من برد‏}‏ هو ماء منعقد؛ وبين أن ذلك بإرداته واختياره بقوله‏:‏ ‏{‏فيصيب به‏}‏ أي البرد والمطر على وجه النقمة أو الرحمة ‏{‏من يشاء‏}‏ من الناس وغيرهم ‏{‏ويصرفه عمن يشاء‏}‏ صرفه عنه؛ ثم نبه على ما هو غاية في العجب في ذلك مما في الماء من النار التي ربما نزلت منها صاعقة فأحرقت ما لا تحرق النار فقال‏:‏ ‏{‏يكاد سنا‏}‏ أي ضوء ‏{‏برقه‏}‏ وهو اضطراب النور في خلاله ‏{‏يذهب‏}‏ أي هو، ملتبساً ‏{‏بالأبصار*‏}‏ لشدة لمعه وتلألئه، فتكون قوة البرق دليلاً على تكاثف السحاب وبشيراً بقوة المطر، ونذيراً بنزول الصواعق؛ ثم ذكر ما هو أدل على الاختيار، فقال مترجماً لما مضى بزيادة‏:‏ ‏{‏يقلب الله‏}‏ أي الذي له الأمر كلهه بتحويل الظلام ضياء والضياء ظلاماً، والنقص تارة والزيادة أخرى، مع المطر تارة والصحو أخرى ‏{‏الليل والنهار‏}‏ فينشأ عن ذلك التقليب من الحر والبرد والنمو والينوع واليبس ما يبهر العقول؛ ولهذا قال منبهاً على النتيجة‏:‏ ‏{‏إن في ذلك‏}‏ أي الأمر العظيم الذي ذكر من جميع ما تقدم ‏{‏لعبرة لأولي الأبصار*‏}‏ أي النافذة، والقلوب الناقدة، يعبرون منها إلى معرفة ما لمدبر ذلك من القدرة التامة والعلم الشامل الدال قطعاً على الوحدانية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏45- 51‏]‏

‏{‏وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ‏(‏45‏)‏ لَقَدْ أَنْزَلْنَا آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ‏(‏46‏)‏ وَيَقُولُونَ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ ‏(‏47‏)‏ وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ ‏(‏48‏)‏ وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ ‏(‏49‏)‏ أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ‏(‏50‏)‏ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏51‏)‏‏}‏

ولما ذكر أولاً أحوال الخافقين دليلاً على وحدانيته، وفصل منها الآثار العلوية، فذكر ما يسقي الأرض، وطوى ذكر ما ينشأ عنه من النبات للعلم به، ذكر أحوال ما يتكون به من الحيوانات دليلاً ظاهراً على الإعادة، وبرهاناً قاهراً على المنكرين لها فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له العلم الكامل والقدرة الشاملة ‏{‏خلق كل دآبة‏}‏ أي مما تقدم أنه يسبح له‏.‏

ولما ذكر أنواعاً من الحيوان، نكر بخلاف ما في الأنبياء فقال‏:‏ ‏{‏من ماء‏}‏ أي دافق هو أعظم أجزاء مادته كما خلق النبات من ماء «هامر» كذلك، وفاوت بينه مع كون الكل من الماء الهامر الذي لا تفاوت فيه ‏{‏فمنهم‏}‏ أي الدواب‏.‏

ولما كان في سياق التعظيم، وكان قد آتى كل نفس من الإدراك ما تعرف به منافعها ومضارها، عبر عن الكل بأداة من يعقل وإن كانوا متفاوتين في التمييز فقال‏:‏ ‏{‏من يمشي على بطنه‏}‏ أي من غير رجل؛ وقدم هذا لكونه أدل على القدرة، وسماه مشياً استعارة ومشاكلة ‏{‏ومنهم من يمشي على رجلين‏}‏ أي ليس غير ‏{‏ومنهم من يمشي على أربع‏}‏ أي من الأيدي والأرجل، وفي هذا تنبيه على من يمشي على أكثر من ذلك، وإليه الإشارة بقوله‏:‏ ‏{‏يخلق الله‏}‏ وعبر باسم الجلالة إعلاماً بتناهي العظمة؛ وقال‏:‏ ‏{‏ما يشاء‏}‏ دلالة على أنه فعله بقدرته واختياره، لا مدخل لشيء غير ذلك فيه إلا بتقدير العزيز العليم‏.‏

ولما كانت هذه الأدلة ناظرة إلى البعث أتم نظر، وكانوا منكرين له، أكد قوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي الكمال المطلق ‏{‏على كل شيء‏}‏ من ذلك وغيره ‏{‏قدير*‏}‏‏.‏

ولما اتضح بهذا ما لله تعالى من صفات الكمال والتنزه عن كل شائبة نقص، وقامت أدلة الوحدانية على ساق، واتسقت براهين الألوهية أي اتساق، قال مترجماً لتلك الأدلة‏:‏ ‏{‏لقد أنزلنا‏}‏ أي في هذه السورة وما تقدمها، بما لنا من العظمة ‏{‏آيات‏}‏ أي من الحكم والأحكام والأدلة والأمثال ‏{‏مبينات‏}‏ لا خفاء في شيء منها عند أحد من الخلق، لأن الله قد أراد هدايتكم، بعضكم بالبيان، وبعضكم بخلق الإذعان ‏{‏والله‏}‏ أي الملك الأعظم ‏{‏يهدي من يشاء‏}‏ من العابد كلهم ‏{‏إلى صراط مستقيم*‏}‏ بالقوة بإنزال الآيات، والفعل بخلق الإيمان والإخبات، فيؤمنون إيماناً ثابتاً‏.‏

ولما كان إخفاء هذه الآيات عن البعض بعد بيانها أعجب من ابتداء نصبها، فكان السياق ظاهراً في أن التقدير‏:‏ والله يضل من يشاء فيكفرون بالآيات والذكر الحكيم، وكان الخروج من نورها بعد التلبس بها إلى الظلام أشد غرابة، عطف على ما قدرته مما دل عليه السياق أتم دلالة قوله دليلاً شهودياً على ذلك مطوي، معجباً ممن عمي عن دلائل التوحيد التي أقامها تعالى وعددها وأوضحها بحيث صارت كما ذكر تعالى أعظم من نور الشمس‏:‏ ‏{‏ويقولون‏}‏ أي الذين ظهر لهم نور الله، بألسنتهم فقط‏:‏ ‏{‏آمنا بالله‏}‏ الذي أوضح لنا جلاله، وعظمته وكماله ‏{‏وبالرسول‏}‏ الذي علمنا كمال رسالته وعمومها بما أقام عليها من الأدلة ‏{‏وأطعنا‏}‏ أي أوجدنا الطاعة لله وللرسول، وعظم المخالفة بين الفعل والقول بأداة البعد فقال‏:‏ ‏{‏ثم يتولى‏}‏ أي يرتد بإنكار القلب ويعرض عن طاعة الله ورسوله، ضلالاً منهم عن الحق ‏{‏فريق منهم‏}‏ أي ناس يقصدون الفرقة من هؤلاء الذين قالوا هذه المقالة‏.‏

ولما كان ينبغي أن يكون وقوع الارتداد منهم- كما أشير إليه- في غاية البعد وإن كان في أقل زمن، أشار إليه بأداة التراخي، وأكد ذلك بقوله مثبتاً الجارّ‏:‏ ‏{‏من بعد ذلك‏}‏ أي القول السديد الشديد المؤكد، مع الله الذي هو أكبر من كل شيء، ومع رسوله الذي هو أشرف الخلائق ‏{‏وما أولئك‏}‏ أي البعداء البضاء الذين صاروا بتوليهم في محل البعد ‏{‏بالمؤمنين*‏}‏ أي بالكاملين في الإيمان قولاً وعقداً، وإنما هم من أهل الوصف اللساني، المجرد عن المعنى الإيقاني‏.‏

ولما فضحهم بما أخفوه من توليهم، قبح عليهم ما أظهروه، فقال معبراً بأداة التحقيق‏:‏ ‏{‏وإذا دعوا‏}‏ أي الذين ادعوا الإيمان من أي داع كان ‏{‏إلى الله‏}‏ أي ما نصب الملك الأعظم من أحكامه ‏{‏ورسوله ليحكم‏}‏ أي الرسول ‏{‏بينهم‏}‏ بما أراه الله ‏{‏إذا فريق منهم‏}‏ أي ناس مجبولون على الأذى المفرق ‏{‏معرضون*‏}‏ أي فاجؤوا الإعراض، إذا كان الحق عليهم، لاتباعهم أهواءهم، مفاجأة تؤذن بثباتهم فيه ‏{‏وإن يكن‏}‏ أي كوناً ثابتاً جداً ‏{‏لهم‏}‏ أي على سبيل الفرض ‏{‏الحق‏}‏ أي بلا شبهة ‏{‏يأتوا إليه‏}‏ أي بالرسول ‏{‏مذعنين*‏}‏ أي منقادين أتم انقياد لما وافق من أهوائهم لعلمهم أنه دائر مع الحق لهم وعليهم، لا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏

ولما كان سبب فعلهم هذا بعد إظهارهم الطاعة مشكلاً، ناسب أن يسأل عنه، فقال تعالى مبيناً له بعد التنبيه على ما يحتمله من الحالات‏:‏ ‏{‏أفي قلوبهم مرض‏}‏ أي نوع فساد من أصل الفطرة يحملهم على الضلال ‏{‏أم ارتابوا‏}‏ بأن حدثت لهم شبهة أعمتهم عن الطريق ‏{‏أم‏}‏ ليس فيهم خلل لا أصلي ولا طارئ، بل الخلل في الحاكم فهم ‏{‏يخافون أن يحيف‏}‏ أي يجور ‏{‏الله‏}‏ الغني عن كل شيء، لأن له كل شيء ‏{‏عليهم‏}‏ بنصب حكم جائر وهو منزه عن الأغراض ‏{‏ورسوله‏}‏ الذي لا ينطق عن الهوى، بضرب أمر زائغ وقد ثبتت عصمته عن الأدناس‏.‏

ولما لم يكن شيء من ذلك كائناً أضرب عنه فقال‏:‏ ‏{‏بل أولئك‏}‏ أي البعداء البغضاء ‏{‏هم‏}‏ أي خاصة ‏{‏الظالمون‏}‏ أي الكاملون في الظلم، لأن قلوبهم مطبوعة على المرض والريب، لا أن فيها نوعاً واحداً منه، وليسوا يخافون الجور، بل هو مرادهم إذا كان الحق عليهم‏.‏

ولما نفى عنهم الإيمان الكامل بما وصفهم به، كان كأنه سئل عن حال المؤمنين فقال‏:‏ ‏{‏إنما كان‏}‏ أي دائماً ‏{‏قول المؤمنين‏}‏ أي العريقين في ذلك الوصف، وأطبق العشرة على نصب القول ليكون اسم كان أوغل الاسمين في التعريف، وهو «أن» وصلتها لأنه لا سبيل عليه للتنكير، ولشبهه كما قال ابن جني في المحتسب بالمضمر من حيث إنه لا يجوز وصفه كما لا يجوز وصف المضمر، وقرأ على رضي الله عنه بخلاف وابن أبي إسحاق ‏{‏قول‏}‏ بارفع ‏{‏إذا دعوا‏}‏ أي من أي داع كان ‏{‏إلى الله‏}‏ أي ما أنزل الملك الذي لا كفوء له من أحكامه ‏{‏ورسوله ليحكم‏}‏ أي الله بما نصب من أحكامه أو الرسول صلى الله عليه وسلم بما يخاطبهم به من كلامه ‏{‏بينهم‏}‏ أي في حكومة من الحكومات لهم أو عليهم ‏{‏أن يقولوا سمعنا‏}‏ أي الدعاء ‏{‏وأطعنا‏}‏ أي بالإجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم‏.‏ ولما كان التقدير‏:‏ فأولئك هم المؤمنون، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأولئك‏}‏ أي العالو الرتبة ‏{‏هم‏}‏ خاصة ‏{‏المفلحون*‏}‏ الذين تقدم في أول المؤمنون وصفهم بأنهم يدركون جميع مأمولهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏52- 53‏]‏

‏{‏وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ ‏(‏52‏)‏ وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏

ولما رتب سبحانه الفلاح على هذا النوع الخاص من الطاعة، أتبعه عموم الطاعة فقال‏:‏ ‏{‏ومن يطع الله‏}‏ أي الذي له الأمر كله ‏{‏ورسوله‏}‏ أي في الإذعان للقضاء وغيره فيما ساءه وسره من جميع الأعمال الظاهرة ‏{‏ويخش الله‏}‏ أي الذي له الجلال والإكرام، بقلبه لما مضى من ذنوبه ليحمله ذلك على كل خير، كما كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا وقع أحد منهم في تقصير يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيقول‏:‏ طهرني، ويلقن أحدهم الرجوع فلا يرجع، وفي تطهيره الإتيان على نفسه، وقع ذلك لرجالهم ونسائهم- رضي الله عنهم أجمعين وأحياناً على منهاجهم وحشرنا في زمرتهم ‏{‏ويتقه‏}‏ أي الله فيما يستقبل بأن يجعل بينه وبين ما يسخطه وقاية من المباحات فيتركها ورعاً‏.‏

ولما أفرد الضمائر إشارة إلى قلة المطيع، جمع لئلا يظن أنه واحد فقال‏:‏ ‏{‏فأولئك‏}‏ العالو الرتبة ‏{‏هم الفائزون*‏}‏ بالملك الأبدي ولا فوز لغيرهم‏.‏

ولما ذكر سبحانه ما رتب على الطاعة الظاهرة التي هي دليل الانقياد الباطن، ذكر حال المنافقين فيه، فقال عاطفاً على ‏{‏ويقولون‏}‏ لأنه ليس المراد منه إلا مجرد القول من غير إرادة تقييد بزمان معين‏:‏ ‏{‏وأقسموا‏}‏ وكأنه عبر بالماضي إشارة إلى أنهم لم يسمحوا به أكثر من مرة، لما يدل عليه من زيادة الخضوع والذل ‏{‏بالله‏}‏ أي الملك الذي له الكمال المطلق؛ واستعار من جهد النفس قوله في موضع الحال‏:‏ ‏{‏جهد أيمانهم‏}‏ أي غاية الإقسام ‏{‏لئن أمرتهم‏}‏ أي بأمر من الأمور ‏{‏ليخرجن‏}‏ مما هم ملتبسون به من خلافه، كائناً ما كان، إلى ما أمرتهم به، وذلك أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ أينما كنت نكن معك، إن خرجت خرجنا، وإن أقمت أقمنا، وإن أمرتنا بالجهاد جاهدنا- قاله البغوي‏.‏ فكأنه قيل‏:‏ ماذا تفعل في اختبارهم‏؟‏ فقيل‏:‏ الأمر أوضح من ذلك، فإن لكل حق حقيقة، ولكل فعل أدلة ‏{‏قل‏}‏ أي لهم‏:‏ ‏{‏لا تقسموا‏}‏ أي لا تحلفوا فإن العلم بما أنتم عليه لا يحتاج إلى الإقسام، ولكن المحرك لكم إلى الخروج محبة الامتثال لا إلزام الإقسام، وفيه إشارة إلى أنهم أهل للاتهام، وكذا قال المتنبي‏:‏

وفي يمينك فيما أنت واعده *** ما دل أنك في الميعاد متهم

ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏طاعة‏}‏ أي هذه الحقيقة ‏{‏معروفة‏}‏ أي منكم ومن غيركم، وإرادة الحقيقة هو الذي سوغ الابتداء بها مع تنكير لفظها لأن العموم الذي تصلح له كما قالوا من أعرف المعارف، ولم تعرف ب «ال» لئلا يظن أنها لعهد ذكري أو نحوه، والمعنى أن الطاعة وإن اجتهد العبد في إخفائها لا بد أن تظهر مخايلها على شمائله، وكذا المعصية لأنه «ما أسر عبد سريرة إلا ألبسه الله رداءها» رواه الطبراني عن جندب رضي الله عنه، وروى مسدد عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال‏:‏ لو أن رجلاً دخل بيتاً في جوف بيت فأدمن هناك عملاً أوشك الناس أن يتحدثوا به، وما من عامل عمل عملاً إلا كساه الله رداء عمله، إن كان خيراً فخير، وإن كان شراً فشر‏.‏

ولأبي يعلى والحاكم- وقال‏:‏ صحيح الإسناد ولم يخرجاه عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة لخرج عمله للناس كائناً ما كان» ثم علل إظهاره للخبء بقوله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏خبير بما تعملون*‏}‏ وإن إجتهدتم في إخفائه، فهو ينصب عليه دلائل يعرفه بها عباده، فالحلف غير مغنٍ عن الحالف، والتسليم غير ضار للمسلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏54- 56‏]‏

‏{‏قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ‏(‏54‏)‏ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ‏(‏55‏)‏ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏56‏)‏‏}‏

ولما نبه على خداعهم، أشار إلى عدم الاغترار بإيمانهم، وإلى قبول شهادة التوسم فيهم، أمر بترغيبهم وترهيبهم، مشيراً إلى الإعراض عن عقوبتهم فقال‏:‏ ‏{‏قل أطيعوا‏}‏ أيها الذين أقروا بالإيمان ‏{‏الله‏}‏ أي الذي لم الكمال المطلق ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي لاذي له الرسالة المطلقة، ظاهراً وباطناً لا كالمنافقين ‏{‏فإن تولوا‏}‏ أي توجد منكم التولية عن ذلك عصياناً له ولو على أدنى وجوه التولية- بما أشار إليه حذف التاء، تضلوا فلا تضروا إلا أنفسكم، وهو معنى قوله‏:‏ ‏{‏فإنما عليه‏}‏ أي الرسول ‏{‏ما حمل‏}‏ أي من التبليغ ممن إذا حمل أحداً شيئاً فلا بد من حمله له أو حمل ما هو أثقل منه ‏{‏وعليكم ما حملتم‏}‏ من القبول، وليس عليه أن يقسركم على الهداية؛ وأفهم بقوله‏:‏ ‏{‏وإن تطيعوه‏}‏ أي بالإقبال على كل ما يأمركم به ‏{‏تهتدوا‏}‏ أي إلى كل خير أنه لا هداية لهم بدون متابعته؛ روى عبد الله ابن الإمام أحمد في زيادات المسند عن النعمان بن بشير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال على المنبر‏:‏ «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والتحدث بنعمة الله شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب» قال‏:‏ فقال أبو أمامة الباهلي رضي الله عنه‏:‏ عليكم بالسواد الأعظم‏!‏ قال فقال رجل‏:‏ ما السواد الأعظم‏؟‏ فنادى أبو أمامة هذه الآية في سورة النور ‏{‏فإن تولوا فإنما عليه ما حمل وعليكم ما حملتم‏}‏‏.‏

ولما كان ما حمله الرسول صلى الله عليه وسلم مبهماً، عينه بقوله‏:‏ ‏{‏وما على الرسول‏}‏ أي من جهة غيره ‏{‏إلا البلاغ المبين*‏}‏ أي التبليغ الذي يحصل به البلاغ من غير شك، إما بالإيضاح وحده أو مضموماً إلى السيف فما دونه من أنواع الزواجر‏.‏

ولما لاح بهذا الإذن في الكف عن قتل النبي صلى الله عليه وسلم للمنافقين لئلا يقول الناس‏:‏ إن محمداً استنصر بقوم، فلما نصره الله بهم أقبل يقتلهم‏.‏ فيمتنع من يسمع ذلك من الدخول في الإسلام، فتكون مفسدة قتلهم أعظم من مفسدة إبقائهم، لأن الدين لم يكن حينئذ تمكن تمكناً لا يؤثر فيه مثل ذلك، تشوفت النفوس إلى أن هذا الحال هل يستمر‏؟‏ فجلى الله عنهما هذا الكرب بقوله‏:‏ بياناً لأن تمكن الدين غير مفتقر إليهم سواء أقبلوا أو أدبروا‏:‏ ‏{‏وعد الله‏}‏ أي الذي له الإحاطة بكل شيء ‏{‏الذين آمنوا‏}‏ وهو مع ذلك كالتعليل لما قبله ترغيباً لمن نظر في الدنيا نوع نظر؛ وقيد بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ تصريحاً بأهل القرن الأول، ليكون ظاهراً فس إخراج المنافقين المتولين بالإعراض، إشارة إلى أنهم لا يزالون في ذل وضعة؛ وقدم هذا القيد اهتماماً به لما ذكر بخلاف ما يأتي في سورة الفتح ‏{‏وعملوا‏}‏ تصديقاً لإيمانهم ‏{‏الصالحات‏}‏ من الإذعان للأحكام وغيرها، وأكد غاية التأكيد بلام القسم، لما عند أكثر الناس من الريب في ذلك فقال‏:‏ ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض‏}‏ أي أرض العرب والعجم، بأن يمد زمانهم، وينفذ أحكامهم ‏{‏كما استخلف‏}‏ أي طلب وأوجد خلافة بإيجادهم ‏{‏الذين من قبلهم‏}‏ أي من الأمم من بني إسرائيل وغيرهم من كل من حصلت له مكنة، وظفر على الأعداء بعد الضعف الشديد كما كتب في الزبور ‏{‏أن الأرض يرثها عبادي الصالحون‏}‏ وكما قال موسى عليه السلام‏:‏ ‏{‏إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين‏}‏ ‏{‏وليمكنن لهم‏}‏ أي في الباطن والظاهر ‏{‏دينهم‏}‏ أضافة إليهم إشارة إلى رسوخ أقدامهم فيه وأنه أبديّ لا ينسخ ‏{‏الذي ارتضى لهم‏}‏ حتى يقيموا الحدود فيه من قتل وغيره على الشريف والوضيع سواء كان الواقعون في ذلك عصبة أم لا، لا يراعون أحداً، ولا يخافون لومة لأئم، لأنه لا يضره إذ ذاك إدباراً مدبر كما قال صلى الله عليه وسلم عن الحرورية كافة

«إنه إن أدركهم ليقتلنهم قتل عاد، بعد أن كف عن قتل رأسهم ونهى عن قتله- وهو واحد في غزوة حنين»‏.‏

ولما بشرهم بالتمكين، أشار لهم إلى مقداره بقوله‏:‏ ‏{‏وليبدلنهم‏}‏ وأشار إلى عدم استغراق هذا الأمن العام لجميع الزمان بإثبات الجارّ فقال‏:‏ ‏{‏من بعد خوفهم‏}‏ هذا الذي هم فيه الآن ‏{‏أمناً‏}‏ أي عظيماً بمقدار هذا الخوف، في زمن النبوة وخلافتها؛ ثم أتبع ذلك نتيجته بقوله تعليلاً للتمكين وما معه‏:‏ ‏{‏يعبدونني‏}‏ أي وحدي؛ وصرح بالمراد بياناً لحال العابدة النافعة بقوله‏:‏ ‏{‏لا يشركون بي شيئاً‏}‏ ظاهراً ولا باطناً، لأن زمانهم يكون زمن عدل، فلا يتحابون فيه بالرغبة والرهبة، روى الطبراني في الوسط عن أبيّ بن كعب رضي الله عنه قال‏:‏ لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم المدينة، وآوتهم الأنصار- رضي الله عنهم أجمعين، رمتهم العرب من قوس واحدة فنزلت ‏{‏ليستخلفنهم في الأرض‏}‏ الآية‏.‏ ولقد صدق الله سبحانه ومن أصدق من الله حديثاً- ففتح سبحانه لهم البلاد، ونصرهم على جبابرة العباد، فأذلوا رقاب الأكاسرة، واستعبدوا أبناء القياصرة، ومكنوا شرقاً وغرباً مكنة لم تحصل قبلهم لأمة من الأمم، كما قال صلى الله عليه وسلم «إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها» يعرف ذلك من طالع فتوح البلاد، وأجمعها وأحسنها النصف الثاني من سيرة الحافظ أبي الربيع بن سالم الكلاعي، وكتاب شيخه ابن حبيش أيضاً جامع، ولا أعلم شيئاً أنفع في رسوخ الإيمان، بعد حفظ القرآن، من مطالعة السير والفتوح، وسيرة الكلاعي جامعة للأمرين، ونظمي للسيرة في القصيدة التي أولها‏:‏

ما بال جفنك هامي الدمع هامره *** وبحر فكرك وافي الهم وافره

أجمع السير- يسر الله إكمال شرحها، آمين‏.‏

ولما قتلوا عثمان رضي الله عنه، وخرجوا على عليّ ثم ابنه الحسن رضي الله عنهما، نزع الله ذلك الأمن كما أشير إليه ب «من» وتنكير «أمناً» وجاء الخوف واستمر يتطاول ويزداد قليلاً قليلاً إلى أن صار في زماننا هذا إلى أمر عظيم- والله المستعان‏.‏

ولما كان التقدير‏:‏ فمن ثبت على دين الإسلام، وانقاد لأحكامه واستقام، نال هذه البشرى، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏ومن كفر‏}‏ أي بالإعراض عن الأحكام أو غيرها؛ أو هو عطف على ‏{‏يعبدونني‏}‏ لأن معناه‏:‏ ومن لم يعبدني‏.‏

ولما كان الفاسق الكامل إنما هو من مات على كفره فحبط عمله، فكان بذلك كفره مستغرقاً لزمانه دون من مات مسلماً وإن كان كافراً في جميع ما مضى له قبل ذلك، أسقط الجار فقال‏:‏ ‏{‏بعد ذلك‏}‏ أي الاستخلاف العظيم على الوجه المشروح ‏{‏فأولئك‏}‏ البعداء من الخير ‏{‏هم‏}‏ خاصة ‏{‏الفاسقون*‏}‏ أي الخارجون من الدين خروجاً كاملاً، لا تقبل معه معذرة، ولا تقال لصاحبه عثرة، بل تقام عليهم الأحكام بالقتل وغيره، ولا يراعى فيهم ملام، ولا تأخذ بهم رأفة عند الانتقام، كما تقدم في أول السورة فيمن لزمه الجلد، ولعل الآية مشيرة إلى أهل الردة‏.‏

ولما تمت هذه البشرى، وكان التقدير‏:‏ فاعملوا واعبدوا، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصلاة‏}‏ أي فإنها قوام ما بينكم وبين ربكم، مع أنه يصح عطفه على قوله «أطيعوا الله» فيكون من مقول ‏{‏قل‏}‏ ‏{‏وآتوا الزكاة‏}‏ فهي نظام ما بينكم وبين إخوانكم ‏{‏وأطيعوا الرسول‏}‏ أي المحيط بالرسالة في كل ما يأمركم به، فإنما هو عن أمر ربكم ‏{‏لعلكم ترحمون*‏}‏ أي لتكونوا عند من يجهل العواقب على رجاء من حصول الرحمة ممن لا راحم في الحقيقة غيره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏57- 60‏]‏

‏{‏لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ ‏(‏57‏)‏ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏58‏)‏ وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ‏(‏59‏)‏ وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏60‏)‏‏}‏

ولما كان الكفار من الكثرة والقوة بمكان، كان الحال جديراً بتأكيد معنى التمكين، جواباً لسؤال من كأنه قال‏:‏ وهل ذلك ممكن فقال‏:‏ ‏{‏لا تحسبن‏}‏ أي أيها المخاطب ‏{‏الذين كفروا‏}‏ أي وإن زادت كثرتهم على العد، وتجاوزت عظمتهم الحد، فإن ذلك الحسبان ضعف عقل، لأن الملك لا يعجزه من تحت قهره، ويجوز أن يكون خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم لزيادة تحقيقه، لأنه على قدر عظمة المخاطب يكون إنجاز الوعد ‏{‏معجزين‏}‏ لأهل ودنا ‏{‏في الأرض‏}‏ فإنهم مأخوذون لا محالة ‏{‏ومأواهم‏}‏ أي مسكنهم ومنزلهم بعد الأخذ ‏{‏النار‏}‏‏.‏ ولما كانت سكنى الشيء لا تكون إلا بعد الصيرورة إليه قال‏:‏ ‏{‏ولبئس المصير*‏}‏ مصيرها‏!‏ فكيف إذا كان على وجه السكنى‏.‏

ولما كان الملل من شيم النفوس، فكان تدريج الكلام في المقاصد لا سيما الأحكام شيئاً فشيئاً خلال مقاصد أخرى أوقع في القلب، وأشهى إلى الطبع، لا سيما إذا كان على وجوه من المناسبات عجيبة، وضروب من الاتصالات هي مع دقتها غريبة، زين الله تأصيلها بتفصيلها فابتدأ السورة بطائفة منها، وفصلها بدر الوعظ، وجواهر الحكم، والحث على معالي الأخلاق، ومكارم الأعمال، ثم وصلها بالإلهيات التي هي أصولها، وعن علي مقاماتها تفرعت فصولها، فلما ختمها بالتمكين لأهل هذا الدين، وتوهين أمر المعتدين، شرع في إكمالها، بإثبات بقية أحوالها، تأكيداً لما حكم به من التمكين، وما ختمه من ذلك من التوهين، وتحذيراً مما ختمه من العذاب المهين، وتحقيقاً لما ألزم به من الطاعة، ولزوم السنة والجماعة، فقال واصلاً بما ختم به الأحكام الأولى، من الأمر بإنكاح الأيامى، والكف عن إكراه البغايا، إثر الذين لم يظهروا على عورات النساء‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ أي من الرجال والنساء، إما للتغليب، وإما لأن النساء أولى بحفظ العورة ‏{‏ليستأذنكم‏}‏ تصديقاً لدعوى الإيمان ‏{‏الذين ملكت أيمانكم‏}‏ من العبيد والإماء البالغين، ومن قاربهم، للدخول عليكم كراهة الاطلاع على عوراتكم والتطرق بذلك إلى مساءتكم ‏{‏والذين‏}‏ ظهروا على عورات النساء، ولكنهم ‏{‏لم يبلغوا الحلم‏}‏ وقيده بقوله‏:‏ ‏{‏منكم‏}‏ ليخرج الأرقاء والكفار ‏{‏ثلاث مرّات‏}‏ في كل دور، ويمكن أن يراد‏:‏ ثلاث استئذانات في كل مرة، فإن لم يحصل الإذن رجع المستأذن كما تقدم‏:‏ المرة الأولى من الأوقات الثلاث ‏{‏من قبل صلاة الفجر‏}‏ لأنه وقت القيام من المضاجع وطرح ثياب النوم ‏{‏و‏}‏ الثانية ‏{‏حين تضعون ثيابكم‏}‏ أي التي للخروج بين الناس ‏{‏من الظهيرة‏}‏ للقائلة ‏{‏و‏}‏ الثالثة ‏{‏من بعد صلاة العشاء‏}‏ لأنه وقت الانفصال من ثياب اليقظة، والاتصال بثياب النوم، وخص هذه الأوقات لأنها ساعات الخلوة، ووضع الثياب، وأثبت من في الموضعين دلالة على قرب الزمن من الوقت المذكور لضبطه، وأسقطها في الأوسط دلالة على استغراقه لأنه غير منضبط، ثم علل ذلك بقوله‏:‏ ‏{‏ثلاث عورات‏}‏ أي اختلالات في التستر والتحفظ، وأصل العورة- كما قال البيضاوي‏:‏ الخلل‏.‏

لأنه لما كانت العورة تبدو فيها سميت بها ‏{‏لكم‏}‏ لأنها ساعات وضع الثياب والخلوة بالأهل، وبين حكم ما عدا ذلك بقوله مستأنفاً‏:‏ ‏{‏ليس عليكم‏}‏ أي في ترك الأمر ‏{‏ولا عليهم‏}‏ يعني العبيد والخدم والصبيان، في ترك الاستئذان ‏{‏جناح‏}‏ أي إثم، وأصله الميل ‏{‏بعدهن‏}‏ أي في جميع ما سوى هذه الأوقات إذا هجموا عليكم؛ ثم علل الإباحة في غيرها، مخرجاً لغيرهم، مبيناً أن حكمة الاستئذان في كل وقت كما مضى بقوله‏:‏ ‏{‏طوافون عليكم‏}‏ أي لعمل ما تحتاجونه في الخدمة كما أنتم طوافون عليهم لعمل ما يصلحهم ويصلحكم في الاستخدام ‏{‏بعضكم‏}‏ طواف ‏{‏على بعض‏}‏ لعمل ما يعجز عنه الآخر أو يشق عليه فلو عم الأمر بالاستئذان لأدى إلى الحرج‏.‏

ولما أعلى سبحانه البيان في هذه الآيات إلى حد يعجز الإنسان لا سيما وهي في الأحكام، والكلام فيها يعيي أهل البيان، وكان السامع لما جبل عليه من النسيان، يذهل عن أن هذا هو الشأن، في جميع القرآن، قال مشيراً إلى عظم شأنها، في تفريقها وبيانها‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل هذا البيان ‏{‏يبين الله‏}‏ بما له من إحاطة العلم والقدرة ‏{‏لكم‏}‏ أيتها الأمة الخاصة ‏{‏الآيات‏}‏ في الأحكام وغيرها وبعلمه وحكمته ‏{‏والله‏}‏ الذي له الإحاطة العامة بكل شيء ‏{‏عليم‏}‏ بكل شيء ‏{‏حكيم*‏}‏ يتقن ما يريده، فلا يقدر أحد على نقضه، وختم الآية بهذا الوصف يدل على أنها محكمة لم تنسخ كما قال الشعبي وغيره- أفاده ابن كثير، وحُكي مثله عن ابن عباس رضي الله عنهما وسعيد بن جبير‏.‏

ولما بين حكم الصبيان والأرقاء الذين هم أطوع للأمر، وأقبل لكل خير، أتبعه حكم البالغين من الأحرار فقال‏:‏ ‏{‏وإذا بلغ الأطفال منكم‏}‏ أي من أحراركم ‏{‏الحلم‏}‏ أي السن الذي يكون فيه إنزال المني برؤية الجماع في النوم، هذا أصله، والمراد سن مطلق الإنزال ‏{‏فليستأذنوا‏}‏ على غيرهم في جميع الأوقات ‏{‏كما استأذن الذين من قبلهم‏}‏ على ما بين في أول الآيات القائلة ‏{‏لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا‏}‏ ونقل ابن كثير عن يحيى بن أبي كثير وسعيد بن جبير أن الغلام إذا كان رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال‏.‏

ولما كانت آيات الاستئذان أتقن حاسم لمواد الشر، وتركها أعظم فاتح لأبواب الفتن، وكان إخراج الكلام، في أحكام الحلال والحرام، مع التهذيب والبيان، في النهاية من الصعوبة، وكان فطم النفوس عما ألفت في غاية من العسر شديدة، أشار سبحانه إلى ذلك بتكرير آية البيان، إشارة إلى أنها- لما لها من العلو- جديرة بالتأكيد، وإلى أن البلغاء يستبعدون القدرة على البيان كلما أريد على هذا السنن فقال‏:‏ ‏{‏كذلك‏}‏ أي مثل ذلك البيان الذي بينه في آيات الأحكام ‏{‏يبين الله‏}‏ بما له من صفات الكمال ‏{‏لكم‏}‏ مع ما لكم من خلال النقص ‏{‏آياته‏}‏ أي العلامات الدالة عليه من هذه الفرعيات وما رقت إليه الأصليات، فأضافها إليه سبحانه تعظيماً لها، إشارة إلى أنها مقدمة للآيات الإلهيات، لأن من لم يتفرغ من مكدرات الأفكار، لم يطر ذلك المطار، وحثاً على تدبر ما تقدم منها لاستحضار ما دعت إليه من الحكم، وفصلت به من المواعظ، وتنبيهاً على ما فيها من العلوم النافعة ديناً ودنيا، وزاد في الترغيب في العلم والحكمة إشارة إلى أن ذلك سبب كل سعادة فقال‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي المحيط بكل شيء ‏{‏عليم حكيم*‏}‏ روى الطبراني وغيره

«عن أنس رضي الله عنه قال‏:‏ لما كانت صبيحة احتلمت دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته أني قد احتلمت، فقال‏:‏» لا تدخل على النساء «، فما أتى عليّ يومٌ كان أشد منه»‏.‏

ولما ذكر سبحانه اقتبال الشباب، في تغيير حكم الحجاب، أتبعه الحكم عند إدبار الشباب، في إلقاء الظاهر من الثياب، فقال‏:‏ ‏{‏والقواعد‏}‏ وحقق ألمر بقوله‏:‏ ‏{‏من النساء‏}‏ جمع قاعد، وهي التي قعدت عن الولد وعن الحيض كبراً وعن الزوج‏.‏ ولما كان هذا الأخير قطبها قال‏:‏ ‏{‏اللاتي لا يرجون نكاحاً‏}‏ أي لعدم رغبتهن فيه أو لوصولهن إلى حد لا يرغب فيهن معه ‏{‏فليس عليهن جناح‏}‏ أي شيء من الحرج في ‏{‏أن يضعن ثيابهن‏}‏ أي الظاهرة فوق الثياب الساترة بحضرة الرجال بدليل قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ‏{‏من ثيابهن‏}‏ قال أبو صالح‏:‏ تضع الجلباب، وهو ما يغطي ثيابها من فوق كالملحفة، وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار ‏{‏غير متبرجات بزينة‏}‏ أي متعمدات- بوضع ما أبيح لهن وضعه إظهار وجوههن مع الزينة، أو غير متظاهرات بالزينة، قال في الجمع بين العباب والمحكم‏:‏ تبرجت المرأة‏:‏ أظهرت وجهها‏.‏ وفي القاموس‏:‏ تبرجت‏:‏ أظهرت زينتها للرجال- انتهى‏.‏ ومادة برج تدور على الظهور كما مضى في الحجر؛ وقال البيضاوي‏:‏ وأصل البرج التكلف في إظهار ما يخفى- انتهى‏.‏ وكأنه أشير بصيغة التفعل إلى أن ما ظهر منها من وجهها أو زينتها عفواً غير مقصود به الفساد لا حرج فيه‏.‏

ولما ذكر الجائز، وكان إبداء الوجه داعياً إلى الريبة، أشار إليه بقوله ذاكراً المستحب، بعثاً على اختيار أفضل الأعمال وأحسنها‏:‏ ‏{‏وأن يستعففن‏}‏ أي يطلبن العفة بدوام الستر وعدم التخفف بإلقاء الجلباب والخمار ‏{‏خير لهن‏}‏ من الإلقاء المذكور‏.‏

ولما كان ما ذكر من حالهن من الخلطة على ذلك الوصف معلوماً أنه لا يخلو عن كلام، كان التقدير‏:‏ فالله في وضع الحرج عنهن رؤوف بهن رحيم، عطف عليه قوله‏:‏ ‏{‏والله‏}‏ أي الذي له جميع صفات الكمال ‏{‏سميع‏}‏ أي لكلامهن إذا خاطبن الرجال هل يخضعن فيه ويتصنعن في ترخيم الصوت به أو يلقينه على الحالة المعروفة غير المنكرة ‏{‏عليم*‏}‏ بما يقصدن به وبكل شيء‏.‏